في الأسبوع الماضي ذكرت الصحف أن مجلس الشورى بحث في جلسته العادية يوم الاثنين 15 فبراير الحالي مشروع قانون بتعديل بعض أحكام القانون رقم (12) لسنة 2004 بشأن الجمعيات والمؤسسات الخاصة، ومشروع القانون يقترح تعديل المادة (38) من القانون رقم (12) لسنة 2004 سالف الذكر، والتعديل يهدف -كما نشرت الصحف- إلى وضع قيد جديد على إنشاء وشهر الجمعيات والمؤسسات الخاصة، وذلك بأن لا يقل رأس مال الجمعيات والمؤسسات الخاصة عن (10) عشرة ملايين ريال.
والعجيب في الأمر أن هذا المقترح يخالف سير كل الحراك الثقافي القانوني الذي طالب -ومازال يطالب- بإلغاء كافة القيود الواردة على إنشاء المؤسسات الخاصة والجمعيات المهنية.
وللذكرى نسرد موجزاً تاريخياً لهذا الحراك الحقوقي:
ذكر تقرير اللجنة الوطنية لحقوق الإنسان لسنة 2005 ما يلي: “إن قانون الجمعيات الخاصة والمهنية رقم (12) لسنة 2004 حظر على هذه التنظيمات القيام بأي عمل خارج شئونها الخاصة، كما فرض القانون العديد من القيود على ممارسة الحق في تكوين الجمعيات الخاصة والجمعيات المهنية”، ويخلص التقرير إلى أن طابع القيد سمة مشتركة في هذا التنظيم.
لذلك أوصى في آخر التقرير “بتعديل القانون رقم (12) لسنة 2004، وإلغاء كافة القيود الواردة على إنشاء الجمعيات الخاصة والجمعيات المهنية”.
وفي آخر تقرير للجنة الوطنية لحقوق الإنسان الصادر في نهاية سنة 2008 تحدثت اللجنة عن نفس الموضوع بالصيغة التالية “تنوه اللجنة إلى أن القيود الواردة في القانون رقم (12) لسنة 2004 تقف حائلاً دون نمو تنظيمات المجتمع المدني الذي يعاني أصلاً من الحداثة”.
لذلك توصي “بتيسير إجراءات تسجيل وإشهار الجمعيات، وإزالة المعوقات والإجراءات الطويلة والبيروقراطية والتقييد الحرفي بنموذج عقد التأسيس والنظام الأساسي الموضوع من قبل (وزارة الشؤون الاجتماعية) حيث إنها نماذج للتيسير والاسترشاد”.
وفي ندوة أقيمت بتاريخ 4/11/2009 تحت مظلة جمعية المحاسبين القانونيين، وناقشت قانون الجمعيات والمؤسسات الخاصة رقم (12) لسنة 2004 سالف الذكر أجمع المشاركون، وهم د. حسن السيد عميد كلية القانون سابقاً، والسيد راشد النعيمي رئيس جمعية المحامين القطرية، والسيد محمد جولو رئيس جمعية المهندسين القطرية، على كثرة الأعباء المالية المفروضة على إنشاء الجمعيات والمؤسسات الخاصة في نصوص ذلك القانون.
وفي مقال مهم وقوي نشر للكاتبة المميزة الأستاذة مريم آل سعد في جريدة الراية بتاريخ 3/11/2009 بعنوان “هل يعتبر القانون الجمعيات المهنية مجرد كماليات اجتماعية!!” تحدثت في هذا السياق بما يلي “من يرى الرسوم الباهظة التي يفرضها قانون الجمعيات والمؤسسات الخاصة على المتقدمين بطلب إشهار جمعياتهم المهنية، ويتفاجأ بضرورة قيام المؤسسين بتوفير المقر وما يتضمنه من أثاث ومعدات وآليات وموظفين، يظن أن هذه الجمعية ما هي إلا شركة ربحية تدر دخلاً، أو أنها مجرد فقاعة للاستعراض الاجتماعي لمجموعة أشخاص متفرغين يريدون المباهاة، ومن هنا وضع لهم القانون هذه الشروط ليحجمهم ويرفع سقف المتطلبات المطلوبة ليعجزهم”.
ومع أن كل هذا الحراك الحقوقي يهيب بالمشرع التدخل لإلغاء الرسوم الباهظة المفروضة على إنشاء وتأسيس الجمعيات والمؤسسات، وخصوصا الجمعيات المهنية من مثل جمعية الصحفيين وجمعية المحامين وغيرهم، حيث إن المشرع في القانون رقم (12) لسنة 2004 يشترط سداد رسم مقداره (50000) خمسون ألف ريال قبل قيام الجمعية المهنية وقبل شهرها، ويشترط رسم سنوي مقداره (10000) عشرة آلاف ريال، ويشترط لتجديد الترخيص سداد رسم مقداره (50000) خمسون ألف ريال، وذلك كل ثلاث سنوات، أقول: مع كل هذه المطالبات السابقة التي تحث المشرع على التدخل لتعديل هذه الرسوم الباهظة المفروضة على هياكل المجتمع المدني، وتدعو لمراعاة وضع هذه الجمعيات والمؤسسات المادي، حيث إنها جهات لا تهدف للربح ومحظور عليها قانونا أن يكون من أغراضها تحقيق مكسب مالي، تدخل المشرع بتعديل يخالف كل التوقعات ويسير عكس سير الطموحات السابقة، وذلك بأن قام بفرض عبء مالي جديد على هذه الجمعيات والمؤسسات الخاصة، يتمثل في اشتراط أن يكون رأس مالها عشرة ملايين ريال أو أكثر، وهذا مبلغ بكل المقاييس مبالغ فيه حتى ولو طبقه المشرع على المؤسسات الخاصة فقط، وأعفى منه الجمعيات المهنية لأنهم جميعاً في الهم هياكل مجتمع مدني ليس لهم من الرصيد المالي والاستقلال المادي إلا اشتراكات الأعضاء والهبات والتبرعات والقروض والوصايا، وهي موارد مالية لا تسمن من جوع ولا تغني من عطش.
أعتقد أن هذا المقترح بالتعديل يدل بشكل واضح على أن هناك فجوة في التواصل بين الجهات المختصة بالتشريع والجهات المهتمة بالتشريع، والجهات المستهدفة بالتشريع، لأن من يتابع هذا الحراك الحقوقي يتوقع من المشرع اقتراحا بالتعديل يصحح المسار، ويزيل العقبات من أمام إنشاء تنظيمات المجتمع المدني، أما أن تكون ردة فعل المشرع على هذا الحراك بفرض عقبات جديدة، فهذا أمر يثبت أن أحد طرفي الحوار يعيش في برج عاجي والأمر متروك للقارئ ليقرر من هو!.
والغريب في أمر هذا المقترح بالتعديل أنه لم يعامل (على الأقل) هذه الجمعيات والمؤسسات الخاصة -التي ليس من أغراضها تحقيق ربح مادي- معاملة بعض الشركات التجارية التي من صميم عملها ونشاطها استهداف الربح المادي.
حيث إن هناك كثيرا من الشركات التجارية يقل رأس المال المطلوب منها عند تأسيس الشركة وشهر قيدها في السجل التجاري ونشره في الجريدة الرسمية عن عشرة ملايين ريال، من مثل شركة المساهمة الخاصة، وشركة التوصية بالأسهم وغيرها من الشركات.
وحتى الشركات التجارية التي تمثل المشروعات التجارية كبيرة الحجم، من مثل شركة المساهمة العامة أو الشركات القابضة، لم يقيد المشرع القطري تأسيسها بقيد مالي يفوق العشرة ملايين ريال.
مع أن الفرق واضح بين شركات تجارية جل همها ومبلغ علمها تحقيق الربح وتقاسم ما ينشأ عن المشروع من ربح أو خسارة، وبين جمعيات ومؤسسات خاصة محظور عليها بنص القانون أن يكون من أغراضها تحقيق مكسب مالي.
كيف نتوقع أن تزدهر عندنا مفاهيم المجتمع المدني، وتتوالد هيا كله ونحن نتعامل مع أفرادها تعامل عقلية التاجر مع منافسيه في السوق المحلية.
وآخر العجب في هذا المقترح أنه أثير في نفس الوقت الذي أقامت فيه المؤسسة العربية للديمقراطية دورتها التدريبية الأولى المتعلقة بمفهوم المجتمع المدني والمواطنة، وهدفت من إقامتها تعزيز ثقافة مفاهيم وهياكل المجتمع المدني بين الشباب القطري.
وآخر المطاف هل الأمر أن المشرع يهدف إلى تجفيف منابع الذمة المالية لهذه التنظيمات، وتصفية حساب الموارد النقدية لأعضاء هذه الهياكل قبل حتى استخراج شهادة الميلاد لها!!
ومسك الختام صدق من قال “تضمن كل الدساتير العربية حرية تكوين الجمعيات… وتميل التدابير القانونية العربية إلى تفصيل أكثر في تحديد حرية تكوين الجمعيات، فتضيف قيوداً تؤدي بمجملها إلى تضييق حاد لنطاق هذا الحق وحتى إن كان النص (الدستوري) إيجابياً”.